فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (98):

{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}.
أَمَرَ- جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [15/ 98]، وَالثَّانِي قَوْلُهُ: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [15/ 98].
وَقَدْ كَرَّرَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْأَمْرَ بِالشَّيْئَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، كَقَوْلِهِ فِي الْأَوَّلِ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [110/ 3]، وَقَوْلِهِ: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [20/ 130]، وَقَوْلِهِ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [40/ 55]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَأَصْلُ التَّسْبِيحِ فِي اللُّغَةِ: الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ. وَمَعْنَاهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: تَنْزِيهُ اللَّهِ- جَلَّ وَعَلَا- عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ. وَمَعْنَى: سَبِّحْ: نَزِّهْ رَبَّكَ- جَلَّ وَعَلَا- عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ. وَقَوْلُهُ بِحَمْدِ رَبِّكَ، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكَ مُتَلَبِّسًا بِحَمْدِ رَبِّكَ، أَيْ: بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ: بِحَمْدِ رَبِّكَ أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ فَتَعُمُّ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ مِنْ كُلِّ وَصْفِ كَمَالٍ وَجَلَالٍ ثَابِتٍ لِلَّهِ- جَلَّ وَعَلَا-. فَتَسْتَغْرِقُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الثَّنَاءَ بِكُلِّ كَمَالٍ؛ لِأَنَّ الْكَمَالَ يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التَّخَلِّي عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالتَّنَزُّهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ، وَهَذَا مَعْنَى التَّسْبِيحِ.
وَالثَّانِي التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ وَالِاتِّصَافُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهَذَا مَعْنَى الْحَمْدِ، فَتَمَّ الثَّنَاءُ بِكُلِّ كَمَالٍ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ»، وَكَقَوْلِهِ فِي الثَّانِي وَهُوَ السُّجُودُ: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [96/ 19]، وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [76/ 26]، وَقَوْلِهِ: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [41/ 37]، وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقُ التَّسْبِيحِ عَلَى الصَّلَاةِ.
وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [15/ 98]، أَيْ: صِلِّ لَهُ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَالصَّلَاةُ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ التَّنْزِيهِ وَمُنْتَهَى التَّقْدِيسِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، أَيْ: مِنَ الْمُصَلِّينَ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةُ، أَوْ أَعَمُّ مِنْهَا مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ؛ وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالسُّجُودِ الصَّلَاةَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَوْضِعُ مَحَلَّ سَجْدَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَوْضِعُ سُجُودٍ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هُنَا السُّجُودُ نَفْسُهُ، فَرَأَى هَذَا الْمَوْضِعَ مَحَلَّ سُجُودٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ شَاهَدْتُ الْإِمَامَ بِمِحْرَابِ زَكَرِيَّا مِنَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ- طَهَّرَهُ اللَّهُ- يَسْجُدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَسَجَدْتُ مَعَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَرَهُ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ.
قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ: أَنَّ هَاهُنَا سَجْدَةً عِنْدَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَيَمَانِ بْنِ رِئَابٍ، وَرَأَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى السُّجُودِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، وَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةُ؛ فَالْمُسَوِّغُ لِهَذَا الْإِطْنَابِ الَّذِي هُوَ عَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ هُوَ أَهَمِّيَّةُ السُّجُودِ؛ لِأَنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي السُّجُودِ.
قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ».
تَنْبِيهٌ:
اعْلَمْ أَنَّ تَرْتِيبَهُ- جَلَّ وَعَلَا- الْأَمْرَ بِالتَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ عَلَى ضِيقِ صَدْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ مَا يَقُولُونَ لَهُ مِنَ السُّوءِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالتَّسْبِيحَ سَبَبٌ لِزَوَالِ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ؛ وَلِذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ بَادَرَ إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الْآيَةَ [2/ 45].
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ نُعَيْمُ بْنُ هَمَّارٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تَعْجِزْ عَنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ»، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ إِذَا أَصَابَهُ مَكْرُوهٌ؛ أَنْ يَفْزَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا.

.تفسير الآية رقم (99):

{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ}. أَمَرَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ، أَيْ: يَتَقَرَّبَ لَهُ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالْمَحَبَّةِ، بِمَا أُمِرَ أَنْ يَتَقَرَّبَ لَهُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ. وَجُلُّ الْقُرْآنِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ حَظُّ الْإِثْبَاتِ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَعَ حَظِّ النَّفْيِ مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُ إِلَّا مَعَ تَحْقِيقِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، الَّذِي هُوَ حَظُّ النَّفْيِ مِنْهَا، وَهُوَ خَلْعُ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ؛ قَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [11/ 123]، وَقَالَ: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [19/ 65]، وَقَالَ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [4/ 36]، وَقَالَ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [2/ 256]، وَقَالَ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [12/ 106]، وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.
قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُمْ:
الْيَقِينُ: الْمَوْتُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [74/ 43- 47]، وَهُوَ: الْمَوْتُ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَقَدْ مَاتَ، قَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ! فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟» فَقَالَتْ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ» الْحَدِيثَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَقِينَ الْمَوْتُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ انْكِشَافُ الْحَقِيقَةِ، وَتَيَقُّنُ الْوَاقِعِ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا جَاءَهُ الْمَوْتُ ظَهَرَتْ لَهُ الْحَقِيقَةُ يَقِينًا. وَلَقَدْ أَجَادَ التُّهَامِيُّ فِي قَوْلِهِ:
وَالْعَيْشُ نَوْمٌ وَالْمَنِيَّةُ يَقَظَةٌ ** وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا خَيَالٌ سَارِي

وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [15/ 98- 99]».
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ تَاجِرًا وَلَا أَجْمَعُ الْمَالَ مُتَكَاثِرًا، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ.
تَنْبِيهَانِ:
الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ حَيًّا وَلَهُ عَقْلٌ ثَابِتٌ يُمَيِّزُ بِهِ، فَالْعِبَادَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّلَاةَ قَائِمًا فَلْيُصَلِّ قَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ عِيسَى- عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [19/ 31]، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابُ إِذَا لَمْ يُطِقْ قَاعَدًا صَلَّى عَلَى جَنْبٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الْقِبْلَةِ، صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ الْمُكْتِبُ، عَنْ بُرَيْدَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ. اه.
وَنَحْوُ هَذَا مَعْلُومٌ؛ قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [64/ 16]، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [2/ 286]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» الْحَدِيثَ.
التَّنْبِيهُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ مَا يُفَسِّرُ بِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ الْكَفَرَةِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ، مِنْ أَنَّ مَعْنَى الْيَقِينِ الْمَعْرِفَةَ بِاللَّهِ- جَلَّ وَعَلَا-، وَأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَصَلَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْيَقِينِ، أَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ وَالتَّكَالِيفُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَقِينَ هُوَ غَايَةُ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ.
إِنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِهَذَا كُفْرٌ بِاللَّهِ وَزَنْدَقَةٌ، وَخُرُوجٌ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا النَّوْعُ لَا يُسَمَّى فِي الِاصْطِلَاحِ تَأْوِيلًا، بَلْ يُسَمَّى لَعِبًا كَمَا قَدَّمْنَا فِي آلِ عِمْرَانَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ هُمْ وَأَصْحَابُهُ- هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِاللَّهِ، وَأَعْرُفُهُمْ بِحُقُوقِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ أَكْثَرَ النَّاسِ عِبَادَةً لِلَّهِ- جَلَّ وَعَلَا-، وَأَشَدَّهُمْ خَوْفًا مِنْهُ وَطَمَعًا فِي رَحْمَتِهِ. وَقَدْ قَالَ- جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [35/ 28]. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.سُورَةُ النَّحْلِ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

.تفسير الآية رقم (1):

{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}.
أَيْ: قَرُبَ وَقْتُ إِتْيَانِ الْقِيَامَةِ.
وَعَبَّرَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي؛ تَنْزِيلًا لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ. وَاقْتِرَابُ الْقِيَامَةِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا بَيَّنَهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [21/ 1]، وَقَوْلِهِ- جَلَّ وَعَلَا-: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [54/ 1]، وَقَوْلِهِ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [33/ 63]، وَقَوْلِهِ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [42/ 17]، وَقَوْلِهِ- جَلَّ وَعَلَا-: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [53/ 75- 58]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي؛ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} الْآيَةَ [39/ 68]، وَقَوْلِهِ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} الْآيَةَ [7/ 44]، وَقَوْلِهِ: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ [39/ 69- 71].
فَكُلُّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، نَزَلَ تَحَقُّقُ وُقُوعِهَا مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} نَهَى اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ اسْتِعْجَالِ مَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْهَوْلِ وَالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالِاسْتِعْجَالُ هُوَ طَلَبُهُمْ أَنْ يُعَجِّلَ لَهُمْ مَا يُوعَدُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ- جَلَّ وَعَلَا-: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [29/ 53]، وَقَوْلِهِ: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [29/ 54]، وَقَوْلِهِ: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [42/ 18]، وَقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} الْآيَةَ [11/ 8]، وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [38/ 16]،
وَقَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [10/ 50]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [16/ 1] فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْعَذَابُ الْمُوعَدُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [16/ 1].
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ؛ أَيْ: لَا تَطْلُبُوا مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعَجِّلَ لَكُمُ الْعَذَابَ. قَالَ: مَعْنَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [54/ 1]، قَالَ الْكُفَّارُ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَرُبَتْ! فَأَمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَأَمْسَكُوا فَانْتَظَرُوا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالُوا: مَا نَرَى شَيْئًا! فَنَزَلَتْ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} الْآيَةَ [21/ 1]، فَأَشْفَقُوا وَانْتَظَرُوا قُرْبَ السَّاعَةِ؛ فَامْتَدَّتِ الْأَيَّامُ، فَقَالُوا: مَا نَرَى شَيْئًا، فَنَزَلَتْ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [16/ 1]، فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ وَخَافُوا، فَنَزَلَتْ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ فَاطْمَأَنُّوا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ»، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ، أَيْ: لَا تَظُنُّوهُ وَاقِعًا الْآنَ عَنْ عَجَلٍ، بَلْ هُوَ مُتَأَخِّرٌ إِلَى وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمَنْ وَافَقَهُ: إِنَّ مَعْنَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، أَيْ: فَرَائِضُهُ وَحُدُودُهُ، قَوْلٌ مَرْدُودٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَقَدْ رَدَّهُ الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ قَائِلًا: إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْجَلَ فَرَائِضَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ: قَدْ جَاءَتْكُمْ فَرَائِضُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهَا. أَمَّا مُسْتَعْجِلُو الْعَذَابِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ كَانُوا كَثِيُرًا. اه.
وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهَا تَهْدِيدٌ لِلْكُفَّارِ بِاقْتِرَابِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ نَهْيِهِمْ عَنِ اسْتِعْجَالِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ تَهْدِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ لَهُمْ قُرْبَ الْعَذَابِ مِنْهُمْ وَالْهَلَاكِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [16/ 1]، فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَقْرِيعِهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ وَوَعِيدِهِ لَهُمْ. اه.

.تفسير الآية رقم (2):

{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}.
أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الرُّوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْوَحْيُ؛ لِأَنَّ الْوَحْيَ بِهِ حَيَاةُ الْأَرْوَاحِ، كَمَا أَنَّ الْغِذَاءَ بِهِ حَيَاةُ الْأَجْسَامِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [42/ 52]، وَقَوْلُهُ: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [40/ 15، 16].
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الْوَحْيُ؛ إِتْيَانُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ} [16/ 2] بِقَوْلِهِ: {أَنْ أَنْذِرُوا} [16/ 2]؛ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْوَحْيِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} الْآيَةَ [21/ 45]، وَكَذَلِكَ إِتْيَانُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [40/ 15]، بِقَوْلِهِ: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} الْآيَةَ [40/ 15]؛ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْوَحْيِ أَيْضًا. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: {يَنْزِلُ}- بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ-. وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ. وَلَفْظَةُ: {مِنْ} [16/ 2] فِي الْآيَةِ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَوْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ.
وَقَوْلُهُ: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [26/ 2]، أَيْ: يُنَزِّلُ الْوَحْيَ عَلَى مَنِ اخْتَارَهُ وَعَلِمَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ.
كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [22/ 75]، وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [6/ 124]، وَقَوْلِهِ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [40/ 15]، وَقَوْلِهِ: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [2/ 90].
وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا رَدٌّ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [43/ 31].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}.
الْأَظْهَرُ فِي أَنْ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهَا هِيَ الْمُفَسِّرَةُ؛ لِأَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ بِالرُّوحِ، أَيْ: بِالْوَحْيِ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي أُنْزِلَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مُفَسَّرٌ بِإِنْذَارِ النَّاسِ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَمْرِهِمْ بِتَقْوَاهُ.
وَقَدْ أَوْضَحَ- جَلَّ وَعَلَا- هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [21/ 25]، وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [26/ 36]، وَقَوْلِهِ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [43/ 45]، وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [21/ 108] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الْإِنْذَارِ، وَمَعْنَى التَّقْوَى.

.تفسير الآية رقم (3):

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
بَيَّنَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّ مَنْ يَخْلُقُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةَ يَتَنَزَّهُ وَيَتَعَاظَمُ أَنْ يُعْبَدَ مَعَهُ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا، وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا.
فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ يُبْرِزُ الْخَلَائِقَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ مَعَهُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ؛ وَلِهَذَا أَتْبَعَ قَوْلَهُ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [16/ 3] بِقَوْلِهِ: {تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [16/ 3].
وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الْآيَةَ [2/ 21]؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ هُوَ الْخَالِقُ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [16/ 17]، وَقَوْلِهِ: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [13/ 16]، وَقَوْلِهِ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [25/ 1- 3]، وَقَوْلِهِ- جَلَّ وَعَلَا-: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [31/ 11]، وَقَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} الْآيَةَ [35/ 40]، وَقَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [46/ 4]، وَقَوْلِهِ- جَلَّ وَعَلَا-: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [22/ 73]، وَقَوْلِهِ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الْآيَةَ [52/ 35- 36]، وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} الْآيَةَ [16/ 20- 21]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ تُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ هُوَ مَنْ يَخْلُقُ الْخَلْقَ، وَيُبْرِزُهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. أَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ، مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يَخْلُقُهُ، وَيُدَبِّرُ شُئُونَهُ.

.تفسير الآية رقم (4):

{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ}.
ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ، وَهِيَ مَنِيُّ الرَّجُلِ وَمَنِيُّ الْمَرْأَةِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [76/ 2]، أَيْ: أَخْلَاطٍ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي تَفْسِيرِ الْأَمْشَاجِ بِالْأَخْلَاطِ: مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ. وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقَ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ: مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ، قَالَ: اخْتِلَاطُ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الرَّحِمِ. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. أَمَّا سَمِعْتَ أَبَا ذُؤَيْبٍ وَهُوَ يَقُولُ:
كَأَنَّ الرِّيشَ وَالْفُوقَيْنِ مِنْهُ ** خِلَالَ النَّصْلِ خَالَطَهُ مَشِيجُ

وَنَسَبَ فِي اللِّسَانِ هَذَا الْبَيْتَ لِزُهَيْرِ بْنِ حَرَامٍ الْهُذَلِيِّ، وَأَنْشَدَهُ هَكَذَا:
كَأَنَّ النَّصْلَ وَالْفُوقَيْنِ مِنْهَا ** خِلَالَ الرِّيشِ سِيطَ بِهِ مَشِيجُ

قَالَ: وَرَوَاهُ الْمُبَرِّدُ:
كَأَنَّ الْمَتْنَ وَالشَّرْجَيْنِ مِنْهُ ** خِلَافَ النَّصْلِ سِيطَ بِهِ مَشِيجُ

قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ:
كَأَنَّ الرِّيشَ وَالْفُوقَيْنِ مِنْهَا ** خِلَالَ النَّصْلِ سِيطَ بِهِ الْمَشِيجُ

وَمَعْنَى سِيطَ بِهِ الْمَشِيجُ: خُلِطَ بِهِ الْخَلْطَ.
إِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي هُوَ النُّطْفَةُ، مِنْهُ مَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الصُّلْبِ، أَيْ: وَهُوَ مَاءُ الرَّجُلِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ التَّرَائِبِ وَهُوَ: مَاءُ الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ- جَلَّ وَعَلَا-: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [86/ 5- 7]
لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّلْبِ صُلْبُ الرَّجُلِ وَهُوَ ظَهْرُهُ، وَالْمُرَادَ بِالتَّرَائِبِ: تَرَائِبُ الْمَرْأَةِ وَهِيَ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ ** تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ

وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِنَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ: عَلَى أَنَّ التَّرَائِبَ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ بِقَوْلِ الْمُخَبَّلِ، أَوِ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى تَرَائِبِهَا ** شَرَقًا بِهِ اللَّبَّاتُ وَالنَّحْرُ

فَقَوْلُهُ هُنَا: {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [86/ 7]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْشَاجَ هِيَ الْأَخْلَاطُ الْمَذْكُورَةُ، وَأَمْرُ الْإِنْسَانِ بِأَنْ يَنْظُرَ مِمَّ خُلِقَ فِي قَوْلِهِ: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [86/ 5] تَنْبِيهٌ لَهُ عَلَى حَقَارَةِ مَا خُلِقَ مِنْهُ؛ لِيَعْرِفَ قَدْرَهُ، وَيَتْرُكَ التَّكَبُّرَ وَالْعُتُوَّ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} الْآيَةَ [77/ 20].
وَبَيَّنَ- جَلَّ وَعَلَا- حَقَارَتَهُ بِقَوْلِهِ: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [70/ 38]، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ النُّطْفَةِ بِمَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: {مِمَّا يَعْلَمُونَ} [70/ 39]، فِيهِ غَايَةُ تَحْقِيرِ ذَلِكَ الْأَصْلِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ الْإِنْسَانُ. وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ رَدْعٍ، وَأَبْلَغُ زَجْرٍ عَنِ التَّكَبُّرِ وَالتَّعَاظُمِ.
وَقَوْلُهُ- جَلَّ وَعَلَا-: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [16/ 4]، أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ: أَنَّهُ ذَمٌّ لِلْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ. وَالْمَعْنَى: خَلَقْنَاهُ لِيَعْبُدَنَا وَيَخْضَعَ لَنَا وَيُطِيعَ، فَفَاجَأَ بِالْخُصُومَةِ وَالتَّكْذِيبِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ: إِذَا الْفُجَائِيَّةُ. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [51/ 56]، مَعَ قَوْلِهِ- جَلَّ وَعَلَا-: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [36/ 77- 79]، وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [25/ 54]، وَقَوْلِهِ: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [19/ 66- 67] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَسَيَأْتِي- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذَا الْمَبْحَثِ فِي سُورَةِ الطَّارِقِ.
تَنْبِيهٌ.
اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ فِي: إِذَا الْفُجَائِيَّةِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ حَرْفٌ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْأَخْفَشُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي: وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُمْ: خَرَجْتُ فَإِذَا إِنَّ زَيْدًا بِالْبَابِ بِكَسْرِ إِنَّ؛ لِأَنَّ إِنَّ- الْمَكْسُورَةَ- لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ ظَرْفُ مَكَانٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْمُبَرِّدُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ ظَرْفُ زَمَانٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الزَّجَّاجُ. وَالْخَصِيمُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، أَيْ: شَدِيدُ الْخُصُومَةِ. وَقِيلَ: الْخَصِيمُ الْمُخَاصِمُ. وَإِتْيَانُ الْفَعِيلِ بِمَعْنَى الْمُفَاعِلِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَالْقَعِيدِ بِمَعْنَى الْمُقَاعِدِ، وَالْجَلِيسِ بِمَعْنَى الْمُجَالِسِ، وَالْأَكِيلِ بِمَعْنَى الْمُؤَاكِلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {مُبِينٌ} [16/ 4] الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلِ أَبَانَ اللَّازِمَةِ، بِمَعْنَى بَانَ وَظَهَرَ؛ أَيْ بَيِّنَ الْخُصُومَةِ. وَمِنْ إِطْلَاقِ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ قَوْلُ جَرِيرٍ:
إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عَدَوَا ** أَبَانَ الْمُقْرِفَاتُ مِنَ الْعِرَابِ

أَيْ: ظَهَرَ. وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ:
لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي جِلْدِهَا ** لَأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُورُ

يَعْنِي: لَظَهَرَ مِنْ آثَارِهِنَّ وَرَمٌ فِي الْجِلْدِ. وَقِيلَ: مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: مُبِينٌ خُصُومَتَهُ وَمُظْهِرٌ لَهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.